" زوجتي مريضة "
مرت بنا فترة عصيبة كانت خلالها دلال تلازم الفراش الأبيض منذ ولادة مها ..
ثم خرجت من المستشفى بعد أن أمضت فيه عشرين يوماً و بدأت صحتها تتحسن يوما بعد يوم و الحمد لله ...
كانت مها ريحانة قلبي و نبض فؤادي ..
يبتهج البيت بصوتها و شقاوتها ..
كيف لا وقد كانت زوجتي تربيها على الأدب من أشهرها الأولى فأتعجب لصنيعها ..
طفلة رضيعة فكيف تتأدب !! ..
و كانت دائما ما تقرأ القرآن و هي تحملها ..
و تعلمها كلمات القرآن قبل أن تنطق ..
حتى أني ذات يوم دخلت البيت فسمعت زوجتي تقرأ القرآن بصوت مرتفع ..
فدخلت الغرفة أستطلع الأمر فوجدت زوجتي قد أجلست مها أمامها و كانت مها للتو قد تعلمت الجلوس و أسندتها على أحد الوسائد حتى لا تسقط على ورائها ..
ثم جلست زوجتي أمامها و كانت تقرأ القرآن بصوت مرتفع و كأنهما تلميذ و أستاذه في حلقة تحفيظ ..
استغربت من صنيع زوجتي بمها فقلت :" ما شاء الله عليكم فاتحين دار تحفيظ .." ..
فقالت لي زوجتي و همة الأم المؤمنة تملأ عينيها : " أبغى مها تلبسنا تاج الوقار يوم القيامة بحفظها لكتاب الله" ...
فأكبرت هذه الهمة العظيمة في هذه المرأة الصالحة ..
وتذكرت حديث رسول الله صلى الله عليه و سلم : " الدنيا متاع , و خير متاعها المرأة الصالحة " ...
مرت السنوات و أصبحت مها في الثالثة من عمرها ..
كانت زهرة تملأ البيت عبقا و عبيرا و أنسا ..
و كانت أمها تملأ البيت إيمانا و ذكرا ..
فما أحلى هذا البيت الذي أسس بنيانه على تقوى من الله ..
تملأه السعادة و الطمأنينة .. و يخرج منه الخير و البر ..
حتى أحبه القريب و البعيد ..
و الغني و الفقير ..
ذات يوم .. كانت مها تسير مع أمها في المستشفى .. فسمعتا امرأة تتأوه من الألم .. فسألت مها والدتها عن هذا الصوت ..
فأخبرتها بأنها امرأة مريضة تتوجع .. فأخرجت صغيرتي من حقيبتها الصغيرة "ريالا" و ذهبت به إلى المرأة المريضة ثم أعطتها إياه و قالت لها : " يا عمة قولي بسم الله عشان يطيب !! " ...
فذهلت المرأة المريضة من صنيعها ..
فضمتها إليها .. وبكت صغيرتي من الخوف ...
فما أحلاك يا حبيبتي مها .. لقد كنت داعية إلى الله بتصرفاتك الإيمانية في كل ميدان ..
و حق لي أن أسميك الداعية الصغيرة ...
في أحد الأيام فجعتنا زوجتي بسقوطها متعبة و هي تؤدي عملها المنزلي ..
أخذناها إلى المستشفى سريعا و لم يكن في الإسعاف إلاّ الطبيب المناوب فرفضت زوجتي أن يكشف عليها رجل مهما كلفها الأمر ..
كنت أوافقها في إصرارها هذا .. لكن التعب و المرض جعل من وجهها المضيء وجها شاحبا شديد الاصفرار ..
و مع كل دقيقة تمضي .. تزداد حالتها سوءا و يزداد وجهها اصفرارا ..
فألححت عليها بأن يكشف عليها الطبيب و أنا معها .. فحالتها حالة ضرورة و لا تحتمل التأخر ..
فرفضت رفضا قاطعا ثم رفعت يديها إلى السماء و قالت : " اللهم يسر أمري و أكتب الخيرة في عاجل أمري و آجله " ..
رضخت لإصرارها وبقينا في انتظار الطبيبة التي سرعان ما طرقت الباب ودخلت ..
انسحبت أنا وابنتي إلى الخارج ريثما يتم الكشف ..
كنت أتأمل في رحمة أرحم الراحمين سبحانه و كيف سخر للحبيبة بغيتها بهذه السرعة العجيبة و أقول في نفسي " صدقتْ مع الله فأعانها الله " ..
حانت مني التفاتة إلى صغيرتي مها فأصابني الهول لمّا رأيت دموعها تتحدر من عينيها ..
سألتها بسرعة : " مها وش فيك حبيبتي " ...
فرفعت يديها إلى السماء و الدموع تجري على خديها و قالت بصوت باكٍ : " يا رب اشف ماما " ...
لقد حفر منظر صغيرتي و هي ترفع يديها و تنظر بعينيها إلى الأعلى و الدمع يسيل على خدها أثرا في قلبي ما أحسبه يُنسى ..
لقد علمتني تلك الصغيرة دروسا في حياة القلب مع الله .. و حياة القلب مع من نحب ..
لقد علمتني كيف أنصح المخطئ و أساعد المحتاج و أعطف على المريض ...
أخذت صغيرتي فقبلتها و قلت : " يا رب لا تحرمني من مها " ..
خرجت الطبيبة من عند دلال فركضت مها إلى أمها لتضمها و تطمئن عليها ..
و أخبرتني الطبيبة أن زوجتي ستمكث في المستشفى لعدة أيام .. و بعد التحاليل ربما تكون هناك إجابة أكثر دقة ..
في صباح اليوم التالي أتيت لزيارة دلال فاستقبلني أحد الأطباء ..
كان يكلمني بطريقة رسمية جدا و لا أثر للابتسامة على وجهه فداخلني كثير من الخوف ..
حاولت أن آخذ منه أكثر فلم يجبني إلا بـ " كل شيء بيد الله " ..
مرّ يومان والمرض يأخذ من صحة زوجتي ويوهنها شيئا فشيئا حتى أدخلت غرفة العناية المركزة ..
ثم دخلت في غيبوبة قرابة الثلاثة أشهر , تفيق منها تارة فتوصيني بنفسي وبقرّة عيننا مها خيرا , و تطمئنني على نفسها قبل أن تغيب من جديد
وسرعان ما غادرتنا حبيبتي و تركتنا في دنيا الآلام ..
كم كانت أياما عصيبة مؤلمة لم يسبق لي أن مررت بمثلها ..
فدلال تلك الأم المربية الحنون ماتت !!!!
يا الله .. ما أعظم الخطب .. و ما أجلّ المصاب ...
لا حول و لا قوة إلا بالله ..
كيف سأعيش بدون زوجتي التي أفتقدها لو غابت عني لحظة ؟
كيف سأعيش في بيت غابت عنه من كانت تملأه بالذكر لربها و الود لزوجها وابنتها ؟
أين سأرى تلك اللمسة الحانية و الابتسامة المفرحة و نظرة العتاب بكل حب و ود و صفاء ؟
لا أدري يوم أن دفنتها .. أدفنتها هي أم دفنت قلبي و روحي !! ...
أحداث متقطعة .. أعي بعضها و أنكر بعضا ..
لم أصدق الخبر حتى أفهمنيه الواقع المرّ الذي عشته بعد فقدها ....
عدت من المقبرة كسير البال أبكي الدم قبل الدمع وأردد
إنا لله و إنا إليه راجعون ..
قدر الله و ما شاء فعل ..
اللهم اؤجرني في مصيبتي و اخلف لي خيرا منها ..
إن القلب ليحزن و إن العين لتدمع و إنا على فراقك يا دلال لمحزونون ...
بعد أن فرغنا من العزاء ذهبت لأرى صغيرتي مها في بيت جدتها ..
دخلت إلى فناء البيت فوجدتها تلعب مع بنات خالاتها لعبة " فتاحي يا وردة "
فلما رأتني أسرعت إلي و ضمتني فحملتها و قبلتها و هي تركز النظر في عينيّ و كأن شيئا قد لفت انتباهها ..
فقالت لي : " بابا متى نروح عند ماما ؟ "
حاولت أن أتماسك فلم أستطع فبقيت محتضنا لصغيرتي و عيناي من خلف رأسها تذرفان الدمع تلو الدمع ..
نسيت نفسي و أنا أبكي بين يدي صغيرتي .. أحسست بأني طفل صغير يحتضن أمه ..
لقد وجدت في صدر صغيرتي الدفء ..
فكيف لا أجده و هذه الصغيرة قطعة مني ...
تنبهت على يدها و هي تمسح الدموع عن خدي ...
همست في داخلي : " لقد فضحتني عيناي .. ماذا أفعل يا رب " ..
فقبلتها و دعوت الله من قلبي أن يسلي صغيرتي مها ..
و يجبر مصابنا في أمها ...
مرّت الأيام فدخلتْ حبيبتي مها الرابعة من عمرها ..
كانت مها قد افتقدت أمها كثيرا بعد وفاتها ...
و عاشت حياتها متنقلة بين منازلها الثلاثة ..
فكانت تمضي أيام الأسبوع في بيت ( خاله ) كما هي تقول .. لتصحبها إلى دار التحفيظ و تتعلم منها أخلاق المؤمنة و أدبها و همتها .. فأديم هي تلميذة دلال رحمها الله و دلال هي التي أوصت بذلك ..
و في أيام آخر الأسبوع تأتي لزيارة والدي و والدتي و أهلي ثم تذهب لزيارة جدتها و أخوالها ...
أما أنا فكنت آخذها كل يوم وقت الظهيرة و نذهب سويا فنتناول الايس كريم غالبا ...
ذات يوم .. عرضت عليّ والدتي الزواج من إحدى قريباتنا فرفضت ذلك رفضا قاطعا ..
ألحّت عليّ كثيرا فأجبتها : " لن أجد أبدا مثلا زوجتي "
تدخلت أختي الكبرى و قالت : "طيب ماذا عن أديم .. نسخة من دلال ؟ "
قلت : " أديم نعم الفتاة .. لكنها صغيرة و الأفضل لها أن تتزوج شابا قريبا من عمرها .. فاني أخشى أن اظلمها .. فهي فتاة في عمر الزهور و الخطّاب من الشباب عليها كثير .."
لم تقنعهم أجوبتي كثيرا فكرروا إصرارهم على الزواج و كررت أنا الرفض ..
بعد أسبوع جاءتني بعثة من العمل لحضور إحدى الدورات في لندن و كانت مدتها قرابة العشرة أيام تقريبا ...
كان زميلي في رحلتي هذه أحد الشباب المتميزين في مجال وظيفته و في مجال دعوته..
كانت مها لا تفارق فكري و خيالي في هذه الرحلة ..
ففي كل مكان أرى مها فيه و هي تبتسم و تقول : " بابا لا تنس الهدية " ..
فأتمتم في نفسي : " أنسى كل شيء إلا هديتك يا صغيرتي " ..
في اليوم الخامس من الدورة طُلب مني أنا و زميلي أن نقدم عرضاً لبعض المشاريع التي قامت بها شركتنا ..
فبذلنا قصارى جهدنا في إخراج العرض بطريقة مغرية و رائعة ..
و كان زميلي يتقن الانجليزية جيدا و الحمد لله .. و يتكلمها كما ينطق بها أهلها ..
كان هذا العرض سيقام في إحدى قاعات الجامعات و سيحضره عدد كبير من منسوبي الشركات و الكادر الأكاديمي ..
تم العرض بطريقة مغرية للغاية و بفكرة جديدة في الطرح فاستمتع الحضور كثيرا .. كما كنا نتعمّد الربط بين أفكار المشروع و أخلاق المسلمين .. فامتلأت القاعة بالحضور و ازداد انتباه الحاضرين لأنهم لم يسمعوا عن كلام مثل هذا من قبل ...
بعد انتهاء العرض بدأ الحضور يلتفون حولنا و يصوروننا و يسألوننا و يطلبون عناويننا البريدية و نحن في حالة من الذهول !!
كل هذا بسبب نبذة بسيطة عن أخلاق المسلمين ..
كان أكثر المتجمهرين من النساء و خاصة ما فوق الأربعين .. اللواتي رمتهن حضارة الغرب الزائفة ..
فلا مكان للمرأة عند الغرب إلا في سن شبابها و جمالها ..
أما ما إن تتجاوز الثلاثين .. حتى ترمى كما ترمى علبة العصير بعد أن يفرغ المشروب الذي تحتويه ...
و في الغد .. بينما زميلي يعّد لنا الغداء طُُرق الباب ..
قمت لأنظر من فتحة الباب فرأيت زيّ امرأة فاعتذرنا عن استقبالها ..
كررت طرق الباب و قالت إنها تريدنا في أمر مهم ..
قال لي زميلي : " افتح لها فلربما تحتاجنا في أمر هام "
رفضت أنا تماما و أخبرته أني عشت في لندن أشهرا قبل سبع سنوات و أعرف ما فيها ..
رجعت إلى المرأة مرة أخرى و أخبرتها أننا لن نفتح لها الباب ..
فتكلمت امرأة كبيرة في السن كانت بجانبها و رجتّـنا أن نفتح لها الباب فهي تعرفنا !!
بعدما سمعت صوت المرأة الكبيرة اطمأننت قليلا ففتحت لهما الباب ..
أول ما رأتني تلك المرأة الكبيرة نطقت باسمي بلكنتها الأعجمية : " أهمد !! "
ظننتها إحدى الحاضرات بالأمس فعرفت اسمي من هناك .. لكن المفاجأة عندما سألتني عن زوجتي ..
عقد الموقف لساني فلم أستطع التعبير .. فأخبرتني بأنها هي تلك الدكتورة التي أجرّت علينا منزلها قبل سبع سنوات يوم أن أتيت إلى هنا مع زوجتي رحمها الله فأمضينا في لندن بضعة أشهر ...
رحبت بها و سألتها عن حالها وعن ابنتها الوحيدة و زوجها ..
فأخبرتني بأن زوجها بخير و أن ابنتها ماتت في حادث سيارة مع عشيقها ..
أطرقت حزينا ..
فبادرتني بالسؤال عن زوجتي و هل هي أتت معنا هذه المرة ؟
نظرت إليها ثم أطرقت ثانية و الحزن يعتصر قلبي ..
فما أن أخبرتها بأنها ماتت رحمها الله حتى بكت بكاء مرّا .. و كأن المتوفاة ابنتها ..
بل لم تبك على ابنتها كما بكت على دلال ..
لفت هذا الأمر انتباه طارق .. فلما هدأت قليلا سألها عن سبب بكائها على دلال مع أنها لم يظهر عليها التأثر عندما أخبرتنا عن وفاة ابنتها ..
فأجابته بأن دلال كانت تهتم بها ... كما كانت طيبة القلب .. كريمة الأخلاق ...
أما ابنتها فلا تكاد تهتم إلا بعشيقها ....
ثم أخذت بيد رفيقتها و قفلتا عائدتين وعليهما أمارات حزن وأسى ...
واستغل طارق الموقف قائلا وهو يبتسم : " زوجتي رحمها الله كانت تتخلق بأخلاق المسلمين .. فالإسلام هو الذي أمرها بذلك " ...
أشارت برأسها وهي تعده ببحث هذا الأمر ...
وقفت متأثرا بعد ما حصل .. سبع سنين و أثر الأخلاق الطيبة و التعامل الحسن باقٍ أثره في قلب هذه الكافرة ..
يا سبحان الله .. انظر كيف تعمل الكلمة الطيبة في القلوب ...
من الغد .. اتصلت على أحد الأخوة المشاركين في احد المراكز الإسلامية هناك و طلبت منه أن يكون لنا محاضرة في المركز
تم التنسيق سريعا خلال يومين ..
ابتدأ زميلي المحاضرة و كان أسلوبه جميلا جدا .. كما أن شكله يضفي عليه هيبة و وقارا و حبا مع أنه ما زال في السادسة و العشرين من عمره ..
بعدها جاء دوري .. كان يبدو عليّ التأثر .. كنت أتكلم عن جمال أخلاق الإسلام و أثرها في قلب المدعوين ...
كنت أشرح لهم صفات الداعية المسلم .. الداعية الذي يدعو إلى الله بأخلاقه قبل أن يدعو بأقواله ...
الداعية الذي يحمل هم هذا الدين .. الداعية الذي ينجح في كسب قلوب الآخرين بابتسامته و عطفه و حنانه و مساعدته للآخرين ...
" أين أنتم من تعامل رسول الله صلى الله عليه و سلم مع جاره اليهودي ؟
انظروا إلى آثار ما تفعلونه و تعملونه من الخير في قلوب الآخرين " ...
ثم قصصت عليهم قصة العجوز مع زوجتي رحمها الله فبكى الحضور و بدت عليهم علامات التأثر ..
بعد انتهاء الدورة رجعنا إلى البلاد محملين بكثير من الهدايا ..